الاثنين، 26 أكتوبر 2009

طللية أخرى وأهلك ذكرياتي في الوقوف على المحطة - محمود درويش


















على محطة قطار سقط عن الخريطة
عُشْبٌ، هواء يابس، شوك، وصبار
على سلك الحديد. هناك شكل الشيء
في عبثية اللاشكل يمضغ ظِلَّهُ...
عدم هناك موثق.. ومطوَّقٌ بنقيضه
ويمامتان تحلقان
على سقيفة غرفة مهجورة عند المحطةِ
والمحطةُ مثل وشم ذاب في جسد المكان
هناك أيضا سروتان نحيلتان كإبرتين طويلتين
تطرّزان سحابة صفراء ليمونيّةً
وهناك سائحةٌ تصوّر مشهدين:
الأوّلَ، الشمسَ التي افترشتْ سرير البحرِ
والثاني، خُلوَّ المقعدِ الخشبيِّ من كيس المسافرِ

(يضجر الذهب السماويُّ المنافقُ من صلابتهِ)

وقفتُ على المحطة.. لا لأنتظر القطارَ
ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليات شيء ما بعيدٍ،
بل لأعرف كيف جُنَّ البحرُ وانكسر المكانُ
كحجرة خزفية، ومتى ولدتُ وأين عشتُ،
وكيف هاجرتِ الطيورُ إلى الجنوب أو الشمال.
ألا تزال بقيتي تكفي لينتصر الخياليُّ الخفيفُ
على فساد الواقعيِّ؟ ألا تزال غزالتي حُبلَى؟

(كبرنا. كم كبرنا، والطريق إلى السماء طويلةٌ)

كان القطار يسير كالأفعى الوديعة من
بلاد الشام حتى مصر. كان صفيرُهُ
يخفي ثُغاءَ الماعزِ المبحوحَ عن نهم الذئاب.
كأنه وقت خرافي لتدريب الذئاب علي صداقتنا.
وكان دخانه يعلو علي نار القرى المتفتّحات
الطالعات من الطبيعة كالشجيراتِ.

(الحياةُ بداهةٌ. وبيوتنا كقلوبنا مفتوحةُ الأبواب)

كنا طيبين وسُذَّجاً. قلنا: البلادُ بلادُنا
قلبُ الخريطة لن تصاب بأيَّ داءٍ خارجيٍّ.
والسماء كريمة معنا، ولا نتكلم الفصحي معاً
إلا لماماً: في مواعيد الصلاة، وفي ليالي القَدْر.
حاضُرنا يسامرنا: معاً نحيا، وماضينا يُسلّينا:
إذا احتجتم إليّ رجعتُ . كنا طيبين وحالمين
فلم نر الغدَ يسرق الماضي.. طريدَتَهُ، ويرحلُ

(كان حاضرنا يُرَبِّي القمح واليقطين قبل هنيهة،
ويُرقِّصُ الوادي)

وقفتُ على المحطة في الغروب: ألا تزال
هنالك امرأتان في امرأة تُلَمِّعُ فَخْذَهَا بالبرق؟
أسطوريتان ـ عدوّتان ـ صديقتان، وتوأمان
على سطوح الريح. واحدةٌ تغازلني. وثانيةٌ
تقاتلني؟ وهل كَسَرَ الدمُ المسفوكُ سيفاً
واحداً لأقول: إنّ إلهتي الأولى معي؟

(صدَّقْتُ أغنيتي القديمةَ كي أكذّبَ واقعي)

كان القطار سفينةً بريةً ترسو.. وتحملنا
إلى مدن الخيال الواقعية كلما احتجنا إلى
اللعب البريء مع المصائر. للنوافذ في القطار
مكانةُ السحريِّ في العاديِّ: يركض كل شيء.
تركض الأشجار والأفكار والأمواج والأبراج
تركض خلفنا. وروائح الليمون تركض. والهواء
وسائر الأشياء تركض، والحنين إلى بعيد
غامضٍ، والقلب يركضُ.

(كلُّ شيءٍ كان مختلفاً ومؤتلفاً)

وقفتُ على المحطة. كنت مهجوراً كغرفة حارس
الأوقات في تلك المحطة. كنتُ منهوباً يطل
على خزائنه ويسأل نفسه: هل كان ذاك
العقلُ / ذاك الكنزُ لي؟ هل كان هذا
اللازورديُّ المبلَّلُ بالرطوبة والندى الليليِّ لي؟
هل كنتُ في يوم من الأيام تلميذَ الفراشة
في الهشاشة والجسارة تارة، وزميلها في
الاستعارة تارة؟ هل كنت في يوم من الأيام
لي؟ هل تمرض الذكري معي وتُصابُ بالحُمَّي؟

(أرى أثري على حجر، فأحسب أنه قَمَري
وأنشدُ واقفاً)

طللية أخري وأُُهلك ذكرياتي في الوقوف
على المحطة. لا أحب الآن هذا العشب،
هذا اليابس المنسيّ، هذا اليائس العبثيَّ،
يكتب سيرة النسيان في هذا المكان الزئبقيِّ.
ولا أحب الأقحوان على قبور الأنبياء.
ولا أحب خلاص ذاتي بالمجاز، ولو أرادتني
الكمنجةُ أن أكون صدى لذاتي. لا أحب سوى
الرجوع إلى حياتي، كي تكون نهايتي سرديةً لبدايتي.

(كدويّ أجراسٍ، هنا انكسر الزمان)

وقفتُ في الستين من جرحي. وقفتُ على
المحطة، لا لأنتظر القطار ولا هتاف العائدين
من الجنوب إلي السنابل، بل لأحفظ ساحل
الزيتون والليمون في تاريخ خارطتي. أهذا...
كل هذا للغياب وما تبقى من فُتات الغيب لي؟
هل مرَّ بي شبحي ولوّح من بعيد واختفى
وسألتُهُ: هل كلما ابتسم الغريبُ لنا وَحَيَّانا
ذبحنا للغريب غزالةً؟

(وقع الصدى مني ككوز صنوبرٍ)

لا شيء يرشدني إلى نفسي سوى حدسي.
تبيض يمامتان شريدتان رسائلَ المنفى على كتفيَّ،
ثم تحلقان على ارتفاع شاحب. وتمرُّ سائحةٌ
وتسألني: أيمكن أن أصوّركَ احتراماً للحقيقة؟
قلت: ما المعنى؟ فقالت لي: أيمكن أن أصوّرك
امتداداً للطبيعةِ؟ قلت: يمكنُ.. كل شيء ممكنٌ.
فَعِمِي مساءً، واتركيني الآن كي أخلو إلي
الموت.. ونفسي!

(للحقيقة، ههنا وجه وحيدٌ واحدٌ
ولذا.. سأنشد:)

أنتَ أنتَ ولو خسرتَ. أنا وأنتَ اثنان
في الماضي، وفي الغد واحد. مَرَّ القطار
ولم نكن يَقِظَيْنِ، فانهض كاملاً متفائلاً،
لا تنتظر أحداً سواك هنا. هنا سقط القطار
عن الخريطة عند منتصف

الأحد، 25 أكتوبر 2009

طللية البروة - محمود درويش

http://www.youtube.com/watch?v=e3wMlX-Jn3M























أمشي خفيفاً كالطيور على أديم الأرض,
كي لا أوقظ الموتى. وأُقفلُ باب
عاطفتي لأصبحَ آخري, إذ لا أحسُّ
بأنني حجرٌ يئنُّ من الحنين الى السحابةِ.
هكذا أمشي كأني سائحٌ ومراسلٌ لصحيفةٍ
غربيةٍ. أختار من هذا المكان الريحَ...
أختارُ الغياب لوصفه. جلس الغيابُ
محايداً حولي, وشاهده الغرابُ محايداً.
يا صاحبيَّ قفا... لنختبر المكان على طريقتنا:
هنا وقعت سماءٌ ما على
حجرٍ لتُتبزغَ في الربيع شقائق
النعمان...(أين الآن أغنيتي؟)
هنا كسر الغزال زجاج نافذتي لأتبعه
إلى الوادي (فأين الآن أغنيتي؟)
هنا حملت فراشات الصباح الساحرات طريق
مدرستي (فأين الآن أغنيتي؟)
هنا هيأتُ للطيران نحو كواكبي
فرساً (فأين الآن أغنيتي؟)
أقول لصاحبيَّ : قفا... لكي أزن المكانَ
وقفره بمعلقات الجاهليين الغنية بالخيول
وبالرحيل. لكل قافية سننصب خيمةً.
ولكل بيتٍ في مهبِّ الريح قافية ٌ...
ولكني أنا ابن حكايتي الأولى. حليبي
ساخن في ثدي أُمي. والسرير تهزُّهُ
عصفورتان صغيرتان. ووالدي يبني غدي
بيديهِ... لم أكبر فلم أذهب إلى
المنفى. يقول السائحُ : انتظر اليمامة ريثما
تنهي الهديل! أقول : تعرفني
وأعرفها, ولكن الرسالة لم تصل.
ويقاطع الصحفيُّ أغنيتي الخفيَّة : هل
ترى خلف الصنوبرة القوية مصنع
الألبان ذاك؟ أقول كلاّ. لا
أرى إلا الغزالة في الشباك.
يقول : والطرق الحديثة هل تراها فوق
أنقاض البيوت؟ أقول كلاّ. لا
أراها, لا أرى إلا الحديقة تحتها,
وأرى خيوط العنكبوت. يقول جففْ
دمعتيك بحفنة العشب الطريّ. أقول :
هذا آخري يبكي على الماضي...
يقول السائحُ: انتهت الزيارة. لم
أجد شيئا أصوِّرُهُ سوى شبحٍ.
أقول: أرى الغياب بكامل الأدوات,
ألمسه وأسمعه, ويرفعني إلى
الأعلى. أرى أقصى السماوات القصية.
كلما متُّ انتبهت, وٌلِدتُ ثانية وعدت
من الغياب الى الغياب.

السبت، 10 أكتوبر 2009

روحٌ طيِّبةْ ٌ في رام الله



















خالد محاميد - رام الله 2009-10-02
يربو الردى في أورشليم ِالعابرة
______________________يُمْليهِ لَمزٌ خلفَ أكتاف الإِنامْ
هاذي حياة الوهْمِ في مستنقعِ
______________________الأَغراب تودي حُزنَنَا مُرُّ السقيم
كنا نداوي يومَناَ ذاك الصباح
______________________في مكتبٍ يجترُّ ألوانَ اليهودْ
والجند في كل الزوايا ساهرون
______________________بين الأقاويلِ القديمة والزُكامْ
ما من فتاةٍ ترتوي من صوتنا.
______________________أو من زهور الحيِّ تروي قولَنَا
عِفتُ الجمودَ الفجَّ في حُكْمِ الحديدْ
______________________لا طيبة ٌ تنمو بنا رُغم العداء
نَقوَى على شرِّ الكلام الهشِّ في
______________________تدليك آيات العذاب الوافرة
لا تعرف النفسُ القليلة ْ قدرَها
______________________يَطْغى الطَمَعْ في صبغ أهداب النساء
تُخفَى الدروبُ الواردةْ نحو القلوبْ
______________________إلاّ الطريق المُحْكَمَةْ بالمَكْنَنَةْ
نقضي شؤونَ الكدِّ في ضبطٍ شديدْ
______________________حتى ولا "شكرٌ" يُنَادَى للمثولْ
هاذي تلال القدس تأوي قلبَنا
______________________والقلب في أحلام قدسٍ يعتمرْ
في جرحنا بعضُ القرى الثكلى أَوَتْ
______________________تُملي علينا جهّزوا سيلَ الرجوع
في كل مَنْحَى قريةٍ أزهارُ صبار ٍ
______________________تواسي دمعة ً في الإنتظار
جئناك رام الله نستقصي الحنين
______________________في القلب غصنٌ زاهرٌ وردُ السهول
جئنا منَ السَهلِ الموازي للجبلْ
______________________في كرملٍ أو روحةٍ والناصرةْ
والجسرُ حبٌ يفتدي أسمى البلادْ
______________________فيه العبورُ الحرُّ يَشفي الأفئدة
في الجو تَسمو طيبة ُ الأشعارْ
______________________والأنغامُ في سرد البطولة تشتعلْ
هذا شهيدٌ يرتدي ذوقَ التراتيل
______________________الجديرةْ بالأغاني الخالدة
تلك العيون الساهرة تحكي الروايات
______________________المريرة عن سجين العائلة
شابٌ تَوَلَّى السجْنَ كالإبحار في
______________________مستوصفٍ؛ يُعطي التحدي معنى الشموخ
يأتي عليناِ الوردُ والحبُ المُغَنَّى
______________________في التفاتات الصبايا كالقمرْ
أو كالعصافير التي لا ينتهي
______________________تغريدُها إلا بموسيقى الوئامْ
نحتار في صيد العيون الساحرةْ.
______________________نختارُ رامَ اللهِ يوما للهجوعْ
ما من فتاة عاينت في ظِلِّنا
______________________إلا ونبضُ الحبِّ يرميها السهام ْ
بنتٌ تصيد العينَ في حلوِ القوامْ
______________________أو أختُها في سَترِ وجهٍ بالنِقابْ
لا الجيلُ يكوي الحرْفَ في باب الكلام
______________________حتى ولا رأسٌ يُغَطَّى بالحجابْ
لا فرق بين البنت في سن النضوج
______________________أو بين جسمٍ قد طوى طيل السنينْ
إن كان في طياتها عذب الحِراك
______________________يهوي على أجسادنا طيف الجمالْ
ما السرُّ رامَ اللهِ في إذعاننا
______________________للسحر ذاك المقتفي إثر البلادْ
نأتي إلى أيديك من خلف الجدارْ
______________________أرضٌ تُقوّينا على ظلم الحصارْ
آنيَّة ٌ فوضى احتجاب الشمس عن
______________________غصن الدوالي؛ فلنهدم الحدَّ الجدارْ
ولنُرجِع الروحَ التي تهوَى المدينةْ
______________________للقرى في ساحلٍ والناصرة